بعيدا عن أعين الناس ومجالسهم، في معزل من فوضى حياتهم وضوضائها... وبعيدا عن وديان السياسة ومقاماتها، في منأى عن نواديها وأخبارها ومنتدياتها الثرثارة... من عالم تعليل الأشياء وتفسيرها الأحداث والحكم عليها، إلى عالم التسليم بالأمور وقبولها كما هي من غير مناقشة أو تعليل، في عالم ليس كعالم الناس عالم مؤثث بأشياء ومعاني خاصة جدا تشكلها أنامل مبدعة غير محسوسة، هو عالم طفولة القلوب النقية الطاهرة، في براءتها المزمنة الدائمة التي لا حِلم قبلها لا يُنتظر بعدها حلم...
في رحاب ذلك العالم البعيد القريب يجلس القلب طويلا متوضئا بدموعه في محراب مناجاته الصامتة... لينسى عبارات السباب إلى ترتيل معاني الإعجاب، ويترك مرارة الانتقام إلى الرضا والاستسلام، ولذيذ الاستعطاف والاسترحام، فيه يتنازل القلب المفتون عن كل شيء لينهمك في طهارته وخضوعه، وقدسية معانيه وسره العظيم!.
هناك، في أحضان الليل الندية، حين يهدأ الضجيج وتركد موجة الحياة، وتكتسي الأشياء وشياً من الظلام والهيبة!... حين يسكن كل شيء ويتفرغ الكون لبعض الناس، وتخالط العقول سنِة من النوم، وتصبح في نصف غيبوبة، تتحرك تلك النسمات السحرية المرحة النائمة، لتداعب بلطف ثنايا القلب، تقلب صفحاته برفق، فتثر الكوامن وتتحرك الأشجان والسواكن، هناك... تصبح شرايين القلب كأنها معلقة بأطراف النجوم أو مغموسة في قلب القمر، تضخ فيه مشاعرها الأرضية المتأججة، فينبض فيها القمر أنسًا وحديثا وعزاء وسلوى، فتكتسي تلك الأحاسيس جلالها وخلودها بعد أن تسبح في ضوء القمر وتمازج الأنين، فتصبح المعاني كلها كأنها أفقية سماوية لا علاقة لها بالتراب... لكن! ما السر الذي يجمع تلك القلوب المحبة العاشقة بالقمر؟!... ثم كيف يفهمون تلك الألغاز والرموز ويدركون تلك الهمسات، ومعاني تلك المناجاة؟ هل القمر أيضا مصاب بالعشق لذلك يصاب بالنحول؟ أم أنه يرق لهم إذا جاؤوا يذاكرونه مواجيدهم وأوجاعهم، وهو الوحيد الذي يستمع إليهم وإلى أنين قلوبهم في إنصات، ويبدو من هيأته وحركته أنه يتجاوب مع تدفق مشاعرهم وانسياب أحاسيسهم وتدفق دموعهم، بل كأني به بريد للعشاق، أو مصلح شافع أو رسول أمين!... ولو لم يكن كذلك لما جالسه الشعراء، ونادمه الأدباء، ولا خاطبوه ولا ذكروه في شعرهم، ونثرهم من غير حرج أو ملل، بل كلما ذكروه ازداد جمالا إلى جماله وازداد قربا إلى النفوس والقلوب!...
ثم لماذا تنتظر القلوب العاشقة الليل لتكشف أوراقها...
هي دائما تؤجل دموعها -(دموع خيبتها ويأسها، دموع رجائها وأملها، دموع حنينها وشوقها، دموع عنائها وبؤسها، دموع حزنها وحتى فرحها...)- ترجئها دائما إلى أن تنزل آية الليل لتنسخ آية النهار المبصرة، وتفضل القلوب أن تذاكر وحدها، وأن تبكي وتتأوه وتتألم وحدها بين يدي النجوم، أو في حضرة القمر وطيف المحبوب، كأنه معبدها المفضل، يجب أن تكون أنواره خافتة كنبضات القلب، ويكون هادئا ساكنا مطمئنا بينه وبين أعين الآخرين وآذانهم حجاب من الظلام مستور؟...
وإن يكن، فالحب مشاعر طاهرة مقدسة، وشعائر قائمة محترمة، يكون الفؤاد مخلصا إذا كان محافظا على هذه المشاعر والشعائر، وإن كان غير ذلك فهو تلاعب بشرف الآخرين وهتك لحيائهم وسترهم، وعبث بمشاعرهم وتحطيم لسمعتهم، وخيانة لسرهم وجرأة على عفافهم وكرامتهم وعبادة لأجسامهم، تنقضي مراسيمها بانقضاء هذا الحب الذي لا يبني عليه فضيلة ولا أخلاق ولا قيم، بل هو المهدم لهذه كلها، الذاهب بكل معاني الروحانية السامية الطاهرة العفيفة، الماحي لكل ما تطمح إليه الإنسانية وترمي إليه الأخلاق الفاضلة، والدين السمح القويم والضمير الحي السليم، والقلب الرقيق، وكم من الناس -و لست أقصد أحد- نسمعهم اليوم يدعون الحب وهم من الحب الصادق بعيدين كل البعد كبعد السماء عن الأرض، حتى زيف الحب وشوهت صورته الساطعة، وكدرت ملامحه المشرقة، وصارت كلمة الحب نشازا على أذاننا يوم كنا صغارا، وبعد أن تقدمنا قليلا في السن مازال الكثير منا للأسف يستكرهونها، ويستعملون مكانها كلمة (ود)، لأن كلمة الحب اقترنت بالرذيلة ومسخها رعاع الناس، وأقحموها في قاموسهم النتن ولطخوها بالفسق والفجور، وحرم الطاهرون والأتقياء من الناس من استعمالها فيما بينهم، غير أنني رغم كل هذا، اقتربت من هذه الكلمة وحاولت أن أمسح عنها بعض ما لحقها لأستعملها في نطاقها بمعناها الحقيقي الأصيل مع عفتها ونقائها
إذًا سأحمل أقلامًا شكوت بها حزني لأدفنها إن مت من سقمي.
أو اتركها إذا سافرت تتبعني فإن زادي مِدَادُ مشرب بدمي.
منقولة طبعا ويارب تنفعنا بيها
اخوكم صلاح الدين ابو اية
انا ليكي شاعر المنتدي
الرئيسية 
أحدث الصور 
